كمياهٍ راكدة..

“قد تبدو الأيام كمياهٍ راكدة

قمرٌ لا ينام، وليـالٍ باردة..

وتُطلّ الأحلام بالأنوار واعدة

فتُضيء الظلام والليالي تنجلي”

_

هناك أشياء كثيرة تدورُ في رأسي، غير مستقرة، هذه الأيام روتينية للغاية، أستيقظ من نومي في وقتٍ متأخر، أجلس مع العائلة، ثمّ أغرق لساعاتٍ في دروس الألمانية والإنجليزية، يمرّ اليوم وينقضي دون أنتبه، وقبل أن أنام، أقرأ بعضًا من يوميات سيلفيا بلاث -للمرة الثانية*– وأشاركها القلق، تشبهني الكاتبة فيها، أفهم خوفها من الإخفاق، إحباطها المستمرّ بسبب قصصٍ لم تكتمل وقصائد رديئة وأعمال مرفوضة، أفكر: “على الأقل كنتِ شجاعة بما يكفي لإرسال إنتاجك لدور النشر يا سيلفيا!” أما أنا، فأملك قصصًا مبتورة، ومسوّدات لا تنوي الخروج إلى النور، ولو لبعض الأصدقاء، أقبع في كهفٍ مظلم يحرسه الخوف، منذ أيام، نشرت فتاةٌ ما تساؤلاً لمتابعيها: “كتبٌ ندمتم على شرائها؟” فقادني الفضول لقراءة أجوبة الآخرين، وتخيلتُ لوهلةٍ لو أني رأيتُ عنوانًا يخصّني! ستتهشّم ثقتي. (هل أهوّل الأمر؟ للغاية؟ ربما!)

 أشعر أنّي بشكلٍ أو بآخر أتماهى مع اكتئاب سيلفيا، مزاجي راكدٌ جدًا كبحيرةٍ ساكنة، والنعاس منتشرٌ في الهواء بشكلٍ مُريب، لا طاقة لي لأي فعل يستلزم طاقة، لكن لا بأس، الركود خيرٌ من الجفافِ على أيةِ حال، أيضًا، في قرارةِ نفسي، أرى أني لا أملك أسبابًا للضيق، اجتمع (كل) أفراد أسرتي أخيرًا بعد تشتتٍ طويل، حصلتُ على درجاتٍ أعلى مما تصوّرت، قضيتُ أسبوعًا لطيفًا للغايةِ مع ابنة عمتي فور وصولي للمملكة، علمتني بعض غرزِ الكروشيه وأخذتُ أنسجُ صفوفًا لا نهائيةٍ من خيطٍ أخضر، وأنا -للحق- سعيدة بكل هذا، وراضية وشاكرة، لكن الجشع يغلبني، والأمل يدفعني للتطلع لمزيدٍ من الأحلام الدافئة، البسيطة! لا زلتُ متمسكة بأمور عديدة لا أعرف متى ستتاح لي الفرصة لتحقيقها، لكنني أسعى، ولا زلتُ جالسةً في مكاني أنتظرُ أمورًا أخرى، لا يسعني فعل شيء آخر سوى انتظارها. يارب، على سحابةٍ رقيقة أن تُمطر فوق البحيرة وتصنع عشراتِ الأمواج الصغيرة، أن تعيد إحياء نشاطي! أرجوك.

 أمرٌ جيد: مسارٌ جديد محتمل للمستقبل! مسارٌ مجهول تمامًا وبلا معالم واضحة، لكنني أضع قدمي عليه بشجاعة! بالإضافة، خبرٌ غير موثوق يقول بأنّ النادي الرياضي التابع للمشفى ستُفتح أبوابه من جديد، لو حدث هذا، سأطير بهجةً! الحياة هُنا تجعلني ثقيلة.  أمرٌ سيء: رأيتُ مؤخرًا صورةً لشخصٍ عزيز في حالة مرض، الصورة قديمة، والمرض اعتيادي! لكن دموعي انسابت غير عابئة بالمنطق. كلما تصورتُ معرفتي بحدود مشاعري؛ اتضح لي أنها أعمقُ بكثير! أعي الآن القدر الذي بإمكان الألم التوغل إليه إن لم… يكفي. أمرٌ آخر: يبدو أنني فقدتُ “النفَس” في الطعام كما يقول والدي، مستواي في الطهي ينحدر نحو القاع.

حسنًا لنعُد إلى سيلفيا، من المثير للسخرية أنّ أعمالها لا تعجبني البتة، ووحدها اليوميات المبعثرة، غير المنقحة، تلامسني، وأحيانًا، أقع في حيرة، هل أحبّ تلك المرأة من منطلق كوني أخصائية نفسية شغوفة بتتبع آثار المرض ومراقبته -بعينِ الحزن- أثناء التهامه لضحيته بكل وحشيّة؟ أم أحبها حبّ زميلة في مجال الكتابة؟ إنني -على الأقل- واثقةٌ بأني لا أحبها كصديقة، وبطبيعةِ الحال، ليس كقدوة! أتساءل أيضًا، هل سيروق لها أن تعلم أننا -معشر القرّاء الذين سخّرت إمكانياتها للكتابة لهم- قد اطلعنا على جميع أسرارها وأكثرها حميمية حتى؟ أنّ هذه المذكرات، بكل صخبها، هي ما أحببناه فعلاً؟ أظنّ أن الإجابة هي: نعم! سيروقها ذلك.

ملاحظة صغيرة: هذه التدوينة ليست دعوةً لقراءة اليوميات، من ناحية، أعتقد حقًا أنها من مُسببات التعاسة، ويكفي أن تعلموا أن صاحبتها انتحرت في نهاية المطاف لذا أظنها تشاركني الرأي، من ناحيةٍ أخرى، فقط في الربعِ الأول من الكتاب -حين كانت لا تزال في الثامنة عشر- هناك وصفٌ غير أخلاقي لبعض الأحداث، لنقل: طيشُ مراهقة تبحث عن الحب، وتفاصيل غير ضرورية. تجاوزوها بهدوء إن قررتم خوض رحلة البؤس هذه.

في ذهني، هناك قائمة طويلة للأمور التي أودّ نشرها (هُنا طبعًا، في مساحتي الآمنة): روايتين من ١٠٠ صفحةٍ على الأقل، تدوينة حول كتاب “هِبة الألم” وتدوينةٌ أخرى حول الحياة بعد التخرج -أعِد بنشرها منذ قرنٍ مضى ولم أفعل بعد!- وتدوينات عديدة حول مصادر التعليم المنزلي وعلم نفس الأطفال.. وحسنًا، القائمة لا نهائية، وطاقتي بالكاد تكفي لإعداد كوبٍ من الكاكاو قبل النوم! لنأمل، لنأمل.. وبعيدًا عن الكتابة، تبدو أهدافي الشخصية في حالةِ سكونٍ أيضًا، وحدها الألمانية تحتفظ برونقِ الهدفِ الجديد وحماسه، لن أتحدث عنها، اتخذت قرارًا ألا أفعل حتى لا أشعر بإنجازٍ غير حقيقي، لذا، لن…

Tschüß!

تعليق واحد

  1. مَلامحُ غَيثٍ

    المقدمة جذبتني! بعيدًا عن كل التدوينة تذكرتُ حبي لايميلي وكيفَ أخذتُ منها كتابة رسالة لنفسي المستقبلية، وكيف تشعر بكل شيء حولها وتكتب عنه.
    وأتطلع كثيرًا لرواية ياسمين، مشتاقة لأقرأ حرفكِ تنسجينه على أمل وحب، تنغمسين تمامًا ولا تعبئين بظنون الناس وتنزحين عن الرؤية الاعتيادية والنهايات المملة، نعم اشتقت.
    بالنسبة لحالة الخمول و(المياه الراكدة) فحتمًا ستطل الأحلام وتضيء أيامك وتنتعشين، الأمر ليسَ بغتة، بل يحتاج لخطوة أولى باردة تجمع القوى وتشعل الهمة 🌿💛
    وقلبٌ هنا سيبقى ينتظر .

    Liked by 1 person

    • كنتُ من المغرمين بإيميلي في الطفولة، لكنني الآن -لأسبابٍ غير معلومة- لا أفضّلها، ربما لأن آن تحوز إعجابي الكامل ꈍᴗꈍ! أسعدكِ الله وأدام لنا لطفك ومودتك التي ترسم ابتسامتي كل مرّة💛💛💛💛💛

      إعجاب

  2. wdom8

    اشعر بالإحراج لأنني نشرت السؤال ذاته لمتابعيني أتمنى أن لا يرى أحدهم عمله في تعليقاتهم 😦
    تدوينة دافئة جدًا خصوصًا المقدمة♥️

    Liked by 1 person

    • في الواقع، وبما أنّي أحد متابعيكِ، فأنتِ المقصودة غالبًا🥺😂♥️
      لا بأس.. حين ينشر المرء عملاً ما لابد أن تكون لديه حصانة نفسية أولاً، كما أن لكلّ قارئ ذوقٌ مختلف ويستحيل إرضاء جميع الأذواق، السؤال عادي، إنما قصدتُ بأني (أنا) لستُ مستعدة لأكون موضع نقدٍ بعد.

      إعجاب

  3. سيلفيا بلاث رسائلها لا تفارقني أبداً 500 صفحة لم استطع تجاوزها.

    Liked by 1 person

أضف تعليق