حملتك في قلبي..

أطأ أعتاب مدوّنتي بخجل، كنتُ قد عاهدتُ نفسي على التدوين دون انقطاع، وها أنا ذا، عامٌ كامل بلا تدوين، وأظنني بشكلٍ أو بآخر فقدتُ لياقتي، اشتقتُ لانسياب الكلماتِ مني دون جهد، لكن.. أثق باستعادة مرونتي مع التدريب، ولعلها الخطوة الأولى الآن! عمّ سأكتب؟ لا أدري، لكنني مصممة على الكتابة حتى النهاية، ولو هذرًا..

    *

استيقظت اليوم في الخامسة والنصف صباحًا، أي أبكر ساعتينِ ونصف من موعد استيقاظي المعتاد، أعلم أنني غارقة في القلق بشأن أمرٍ ما، وأن جسدي يعبر عن ذلك حين يرفض عقلي الاعتراف بالأمر.. ولكن ما باليدِ حيلة! على أية حال، هل أبدأ الكتابة بعشوائية الآن؟ أحب الرياض، ولطالما أحببتها وتمنيت العودة إليها، ربما العيش فيها كطالبة تروح وتجيء مختلفٌ تمامًا عن العيش كربة منزل وأم، كما لو أن دائرة الحياة الاجتماعية ضاقت فجأة، لكن الرياض لا تزال هادئة وصاخبة في آن، وجميلة.. هناك عشرات الأماكن التي أود الذهاب إليها، مقاهٍ، مطاعم، حدائق ومنتزهات وساحاتٌ مليئة بالفعاليات! غير أن هناك عائقٌ صغير جدًا جدًا، صغيرٌ فعلاً! واسمه عُدي.. طفلي المشاغب الذي يستطيع إذابة قلبي بنظرة بريئة واحدة.

لم تكن الأمومة كما تخيلت أبدًا في بادئ الأمر، ربما لأنها ترافقت مع ظروفٍ كثيرة لم أحسب لها حسابًا وكانت بعيدة كل البعد عن رغبتي، كل شيء كان هادئًا في بداية الحمل، ثمّ تتابعت الأمور حين سافر زوجي وتركتُ منزلي ومكثت عند عائلتي لأربعة أشهر قبل الولادة وشهرين بعدها، لم يكن هذا (السيناريو) الذي تصورته لهذه المرحلةِ من حياتي، الأيام دون شريكِ الحياة لا تُحتمل، خصوصًا مع الإرهاق المتواصل وتقلبات المزاج والحاجة إلى الحنان والدعم العاطفي، وإضافة لذلك؟ أحببتُ بيتي، وآلمني تركه.. ولأنه لم يكن ملكنا منذ البداية فالعيش فيه مجددًا أمرٌ مستحيل ربما، لذا، كل تلك الأمور ألهتني نوعًا ما عن تكوين مشاعر جياشة لجنيني، إذ استغرقتُ كثيرًا في مشاعري الخاصة تجاه الأحداث.. وبعد الولادة، كنت بحاجة إلى التعافي جسديًا وبالكاد أقوى على النوم، لديّ الكثير من الأمور التي يجب إنجازها وإجراءات ومواعيد من أجل السفر، كل شيء صاخب، لا وقت للتفكير.. لا وقت للمشاعر.

في مخيلتي، حين أنجب؟ سيأخذ طفلي قلبي كله من النظرةِ الأولى، أعشق الأطفال فكيف بطفلي أنا! لذا حين مضت أسابيع وأسابيع دون ”الحبّ الجارف“ الذي تصورته، شعرتُ أن بي خطبًا ما.. لم أصب باكتئاب ما بعد الولادة، ولم أرفض طفلي أو ما شابه، بل أحببته، وكنتُ صبورة ومسؤولة وبذلت ما بوسعي لرعايته وحمايته، غير أنّي ضقتُ به ذرعًا أحيانًا كثيرة، وفكرت مرارًا بحياتي وحريتي قبل مجيئه، وكلما قلّت جودة الوقت الذي أقضيه مع شريكي أو ازدادت صعوبة الأعمال المنزلية في ظل بكاءٍ لا يتوقف؛ ضقتُ أكثر، وازداد شعوري بالذنب.. حين أستيقظ ليلاً عدة مرات من أجل إرضاعه؛ أحس بغضبٍ عارم في رأسي، غضب حقيقي بمقياس ٨ على ١٠! أرغب بتحطيم شيء ما أو البكاء من شدة التعب! أتجلد فقط لأنني لا أملك خيارًا آخر.. 

*

قائمة أمورٍ لم أعد أستطيع فعلها: 

*جدول (skin care) رائق مليء بالدلال.

*إيجاد الوقت لصنع الحلويات والفطائر.

*ارتياد المطاعم أو الخروج لوقتٍ طويل.

*الكتابة خارج إطار العمل (التدوين)

*أخذ أعمالٍ كبيرة/ جمع مال أكثر.

*النوم براحة لـ ٥ ساعاتٍ متواصلة.

*القراءة، التركيز، الرغبة بالمعرفة.

*

— ثمّ؟ بدأ ينظر إليّ، يتعلق بي، يبتسم، يهمهم بحماسٍ من أجل لعبة، يضحك ضحكةً مطولة سعيدة، يمدّ يده باتجاهي، يجلس ثم ينقلب على جنبه بشكلٍ طريف، أعقد حاجبيّ فينظر إليّ باستعطاف ويختبئ في أحضاني، نلعبُ أمام المرآة، أقف خلف الباب وأطلّ برأسي (بوه!)، أرميهِ عاليًا ثم ألتقطه وندور بسعادة، أذيقه التفاح، أحكي له قصة، أتلو عليه الأذكار، أحتضنه وأقبله ألف ألف مرة! ثم.. وببساطة؟ ”يكبر – يا فدا عينيه- وفؤادي يزداد طراوةً في حبّه “ — صرتُ أمًا حقيقية، ذلك النوع الذي يفدي أولاده بحياته، ويحبّهم أكثر من نفسه..

يبلغ عُدي الآن سبعة أشهرٍ تقريبًا، لا زال يستيقظ ليلاً، لكنني لا أغضب أبدًا، غالبًا ما يرفض ابتعادي عنه أثناء نومه ليلًا أو نهار، يزعجني هذا قليلاً -لا لأنه متعلق بي، بل لأن لديّ الكثير من المهمات- لكنني أحاول جاهدةً ألا أصبّ توتري عليه، أتفهم، وأحبّ، وأقول في نفسي: “صغيرٌ لا يملك إلاك.. أنتِ أمانه” وترقّ روحي.. تصبح الأمور أسهل نوعًا ما حين يغدو بيننا وبين الأطفال نوعٌ من التواصل، يصبح الخروج من المنزل أيسر، والصبر على الرضاعة أطول، وعمومًا، تبدأ الأمور بأخذ مسارٍ أفضل..

“نمْ صغيري نمْ بحِجْرِي — نمْ هنيئًا أنت َعُمري”

أخبرتني أمي ذات مرةٍ أنني كنتُ طفلة مثالية تسير حسب جدول النمو تمامًا، لا تتقدم ولا تتأخر، وأني بقيتُ كذلك لفترة، آخذ وقتي في كل شيء.. حين أفكر الآن، أجدني بالفعل أستغرق وقتًا طويلاً لأخذ قرار، وقتًا للاندماج والتكيف، وقتًا لبناء علاقة جيدة مع الآخرين، ومن الطريف أن أحد الأشياء التي كانت تثير غيظ شريكي في بداية زواجنا -وحتى الآن ربما- هي عبارة: “أحتاج أفكر” في مواضع يرى أن الأمر فيها لا يحتاج لا إلى وقتٍ ولا تفكير! ربما هو عيبٌ فيّ، لكنه جزءٌ من تركيبي لا أملك تغييره.. ولذا، ربما احتجت وقتًا لأعي شعور الأمومة، يخطر لي قول إلِف شفق في كتابها حليب أسود: “غير أن المرأة لا تصير أمّا بمجرد الإنجاب، بل عليها أن تتعلم الأمومة، إنها معرفة، يأخذ استيعابها عند البعض وقتًا أطول من الآخرين، وهناك من يجدن أنفسهن يرتعشن حتى العظام من هول التجربة”

أحب عديّ، أحب حساسيته للأصوات العالية، خوفه من العبوس، وجهه البريء الناعس حين يكون متعبًا، رغبته الشديدة في لفتِ الانتباه، أحب ضحكته الصغيرة، وسنّه الوحيد الذي برز للتوّ، أحب يده.. تحتضن أصابعي بإحكام، أحب لهفته عليّ، ورائحته.. أحبه كثيرًا، وأرجو من الله أن يمتعه بعمرٍ طويل وصحة وعافية، وأن يجعله بارًا راضيًا سعيدًا نضِرًا.. ويرزقني ووالده حبه أبد الدهر.

“اللهَ أدعو أن تكون مباركًا — في الخير عدّاءً يحبك ربك

وتقِرّ عيني حين تغدو مُصلحًا — ويعمّ كل الناس يومًا برّك”

*

أعترف بأني اختنقتُ بالدموع أثناء كتابتي لهذه التدوينة، لم أكتب عن نفسي منذ وقتٍ طويل.. استيقظ طفلي  عدة مراتٍ بالطبع -في الواقع: مستقرٌ في حجري الآن- لكن.. سعيدةٌ أني كتبتُ حتى النهاية، بعد أكثر من خمسِ تدويناتٍ مبتورة لم ترَ النور.. وضعتُ ضمن أهدافي لهذا العام العودة إلى التدوين بانتظام، فوّتُ شهرًا، لكن لا بأس.. أن تتأخر خيرٌ من ألا تصل.

تخدّرت يداي، لذا.. أراكم على خير. 

٢٣ فبراير ٢٠٢٣

الإعلان

7 comments

  1. مَلامحُ غَيثٍ

    ياسمين يا ياسمين يا أم عدي 🥺♥️
    بدايةً: اشتقتُ كثيرًا لتدويناتك، وكم أبهجني إشعار تدوينتك الجديدة، تقولين أن أسلوب كتابتك تغيّر، لا أزال أراه بذات اللطف والحياة الدافئة البريئة.
    لم أظن أن سبب توقفك هو هذه الأحداث المتتالية، رغم علمي بحملك وولادتك، لكن كان الأمر أثقل من مجرد ذلك، ومن غير اللطف أن أرجوكِ بعدم الانقطاع وأنتِ بالفعل تحاربين من أجل ذلك 🍃
    عدي، قطعة سكر، أسأل الله أن يحفظه لك، سردتِ الكثير من المشاعر دفعةً واحدة، مررتِ بالكثير وأوصلته إلينا بسلاسة وبساطة، هذا ما يميّزك أم عدي، يميّزك الاسترسال الذي لا يُمَلّ ما شاء الله، ولو كنتِ في أشد الأوقات صعوبة.
    تدوينتك دفء على قلبي، وحب.

    Liked by 3 people

  2. Sa_alfort

    كنت افتقد شيء ما للقراءة قبل النوم حتى طرأت مدونتك على بالي وكنت اتساءل هل لازالت المدونة موجودة؟ لأتفاجأ بمدونة جديدة اليوم عن موضوع يشغل عقلي في الأيام الاخيرة ..شكرًا لك على اتاحة وقتك للكتابة رغم انشغالك وأتمنى لك دوام الصحة والعافية

    Liked by 1 person

  3. التدوينة لطيفة ومليئة بمشاعر الأمومة، حفظ الله ابنك عدي، اسم غريب لكنه جميل،الأمومة أجمل نعمة في حياتنا، أنصحك بأن تعيشها مع طفلك بكل تفاصيلها، لأنها لا نعوض بمال الدنيا.

    إعجاب

  4. تفقدت مدونتك عدّة مرّات أملًا بمدونة جديدة 🙂
    بارك الله لك في طفلك و أمومتك 💕

    إعجاب

  5. أهلًا بمن عاد ❤️
    هذه المشاعر الجميلة العذبة التي تغمرك وأنتِ تكتبين عن طفلكِ عدي أحسبني قد أحسست بجزءٍ منها؛ فقد صرت خالة قبل سنة وخمسة شهور لطفلٍ لطيف رقيق مثل طفلكِ.
    حرس الله أطفالنا وأمهاتنا وآبائنا بعينه التي لا تنام وحفظهم بركنه الذي لا يُرام 💛

    Liked by 1 person

  6. أحب لمّا تكتب المرأة الفتاة الأم عن حياتها بهذه الصورة الصادقة، وأجزم أنها نفس نقي للقارئ ما هي للكاتب، الحكايات التي لم تستطع الذاكرة حفظ تفاصيلها يمكن للتدوين كنزها كهدايا ثمينة جدا.. شكرا لأنكِ تشاركيننا هذي الحياة
    وربي يجعل عدي قرة عين ويبلغك فيه وفي نفسك وأهلك ما تحبين..

    Liked by 2 people

  7. التنبيهات: فك هروج – كلنكوتي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: